سورة الرعد - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


{وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ} كثيرة خلَت {مّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أي تركتهم ملاوةً من الزمان في أمن ودعةٍ كما يملى للبهمية في المرعى. وهذا تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقيَ من المشركين من التكذيب والاقتراحِ على طريقة الاستهزاءِ به ووعيدٌ لهم، والمعنى أن ذلك ليس مختصاً بك بل هو أمرٌ مطردٌ قد فُعل ذلك برسل كثيرة كائنةٍ من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم، والعدولُ في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غيرُ المستهزئين بل لإرادة الجمعِ بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم لا باستهزائهم فقط {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي عقابي إياهم، وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما لا يخفى.


{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} أي رقيبٌ مهيمنٌ {على كُلّ نَفْسٍ} كائنة من كانت {بِمَا كَسَبَتْ} من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك بل يجازي كلاًّ بعمله وهو الله تعالى والخبرُ محذوفٌ أي كمن ليس كذلك إنكاراً لذلك، وإدخالُ الفاء لتوجيه الإنكارِ إلى توهم المماثلة غبَّ ما عُلم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديدِ والأخذ الشديد ومن كون الأمرِ كله لله تعالى وكونِ هداية الناس جميعاً منوطةً بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارعِ على الكفرة إلى أن يأتيَ وعدُ الله كأنه قيل: الأمرُ كذلك، فمن هذا شأنُه كما ليس في عداد الأشياء حتى تُشركوه به؟ فالإنكار متوجهٌ إلى ترتب المعطوفِ أعني توهّمَ المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كونَ الأمر كما ذُكر كما في قولك: أتعلم الحقَّ فلا تعملُ به؟ لا إلى المعطوفين جميعاً كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعملُ به، وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} جملةٌ مستقلة جيء بها للدلالة على الخبر أو حالية، أي أفمن هذه صفاتُه كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاءَ لا شريكاً واحداً، أو معطوفةٌ على الخبر إن قدّر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنُه لم يوحّدوه وجعلوا له شركاءَ؟ ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمر للتنصيص على وحدانيته ذاتاً واسماً وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادةِ مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولاً للدلالة على التفخيم، وقوله تعالى: {قُلْ سَمُّوهُمْ} تبكيتٌ لهم إثرَ تبكيتٍ أي سمُّوهم من هم وماذا أسماؤهم أو صِفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشِرْكة {أَمْ تُنَبّئُونَهُ} أي بل أتنبئون الله {بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الأرض} أي بشركاءَ مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزُب عنه مثقالُ ذرة في السموات والأرض وقرئ بالتخفيف {أَم بظاهر مّنَ القول} أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقةٌ كتسمية الزنجيّ كافوراً كقوله تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بأفواههم} وهاتيك الأساليبُ البديعة التي ورد عليها الآيةُ الكريمةُ مناديةٌ على أنها خارجةٌ عن قدرة البشر من كلام خلاقِ القُوى والقدَر فتبارك الله رب العالمين.
{بَلْ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وضع الموصولُ موضع المضمر ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالكفر {مَكْرِهِمْ} تمويهُهم الأباطيلَ أو كيدهم للإسلام بشركهم {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} أي سبيلِ الحق، من صدّه صداً، وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدالِ إليها وقرئ بفتحها أي صدوا الناس أو من صد صدوداً {وَمَن يُضْلِلِ الله} أي يخلق فيه الظلالَ بسوء اختياره أو يخذلْه {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يوفقه للهدى.


{لَهُمْ عَذَابَ} شاق {وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم} بالقتل والأسر وسائرِ ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبةً على كفرهم {وَلَعَذَابُ الاخرة أَشَقُّ} من ذلك بالشدة والمدة {وَمَا لَهُم مّنَ الله} من عذابه المذكور {مِن وَاقٍ} من حافظ يعصِمهم من ذلك، فمِن الأولى صلةٌ للوقاية والثانية مزيدةٌ للتأكيد.
{مَّثَلُ الجنة} أي صفتُها العجيبة الشأنِ التي في الغرابة كالمثل {التى وُعِدَ المتقون} عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبرُه محذوفٌ عند سيبوبه أي فيما قصصنا عليك مثلُ الجنة وقوله تعالى: {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} تفسير لذلك المثَل على أنه حالٌ من الضمير المحذوف من الصلة العائدِ إلى الجنة أي وعدها وهو الخبرُ عند غيره، كقولك: شأنَ زيد يأتيه الناسُ ويعظمونه أو على حذف موصوفٍ أي مثلُ الجنة جنةٌ تجري إلخ {أُكُلُهَا} ثمرُها {دَائِمٌ} لا ينقطع {وِظِلُّهَا} أيضاً كذلك لا تنسخه الشمسُ كما تنسخ ظلالَ الدنيا {تِلْكَ} الجنة المنعوتةُ بما ذكر {عقبى الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصيَ أي ما لهم ومنتهى أمرِهم {وَّعُقْبَى الكافرين النار} لا غيرُ، وفيه ما لا يخفى من إطماع المتقين وإقناطِ الكافرين.
{والذين ءاتيناهم الكتاب} هم المسلمون من أهل الكتاب كعبد اللَّه بنِ سلام وكعبٍ وأضرابِهما ومَنْ آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعون بنجرانَ، وثمانيةٌ باليمن، واثنانَ وثلاثون بالحبشة {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} إذ هو الكتابُ الموعودُ في التوراة والإنجيل {وَمِنَ الاحزاب} أي من أحزابهم وهم كفرتُهم الذين تحزّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرفِ والسيدِ والعاقبِ أسقُفيْ نجرانَ وأتباعِهما {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو الشرائعُ الحادثة إنشاءً أو نسخاً لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنُعيَ عليهم من أول الأمر أن مدارَ ذلك إنما هو جناياتُ أيديهم، وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به، وقيل: يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتُهم فإنهم أيضاً يفرحون به لكونه مصداقاً لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى: {وَمِنَ الأحزاب} الخ، تتمةً بمنزلة أن يقال: ومنهم من ينكر بعضه.
{قُلْ} إلزاماً لهم ورداً لإنكارهم {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ} أي شيئاً من الأشياء أو لا أفعل الإشراكَ به، والمراد قصرُ الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصرُ الأمرِ مطلقاً على عبادته تعالى خاصة، أي قل لهم: إنما أمرتُ فيما أُنزل إلي بعبادة الله وتوحيده، وظاهرٌ أن لا سبيلَ لكم إلى إنكاره لإطباق جميعِ الأنبياءِ والكتبِ على ذلك كقوله تعالى: {قُلْ يا أَهْلِ الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}
فما لكم تشركون به عُزيراً والمسيحَ؟ وقرئ: {ولا أشركُ به} بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به {إِلَيْهِ} إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكورِ من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد {أَدْعُو} الناسَ لا إلى غيره أو لا إلى شيء آخرَ مما يُطبق عليه الكتبُ الإلهية والأنبياءُ عليهم الصلاة والسلام فما وجهُ إنكارِكم {وَإِلَيْهِ} إلى الله تعالى وحده {مَئَابٍ} مرجعي للجزاء، وحيث كانت هذه الحجةُ الباهرة لازمةً لهم لا يجدون عنها محيصاً أُمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبَهم بذلك إلزاماً وتبكيتاً لهم، ثم شرُع في رد إنكارِهم لفروع الشرائع الواردةِ ابتداءً أو بدلاً من الشرائع المنسوخةِ ببيان الحكمةِ في ذلك فقيل: {وكذلك أنزلناه} أي ما أنزل إليك، وذلك إشارةٌ إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك، ومحلُّه النصبُ على المصدرية أي مثلَ ذلك الإنزالِ البديعِ المنتظم لأصول مجمَعٍ عليها وفروعٍ متشعبة إلى موافِقة ومخالِفة حسبما تقتضيه قضيةُ الحكمةِ والمصلحة أنزلناه {حُكْمًا} حاكماً يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يُحكم به كذلك، والتعرضُ لذلك العنوان مع أن بعضَه ليس بحكم لتربية وجوبِ مراعاتِه وتحتم المحافظةِ عليه {عَرَبِيّاً} مترجماً بلسان العربِ، والتعرضُ لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى موادِّ المخالفة للكتب السابقةِ مع أن ذلك مقتضى الحكمةِ إذ بذلك يسهُل فهمه وإدراكُ إعجازه، والاقتصارُ على اشتمال الإنزالِ على أصول الديانات المجمعِ عليها حسبما يفيده قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله} الخ، يأباه التعرّض لاتباع أهوائِهم وحديثِ المحو والإثبات، وأنْ لكل أجلٍ كتابٌ فإن المجمعَ عليه لا يتصور فيه الاستتباعُ والاتباع {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفةِ لما أنزل إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل {بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} العظيمِ الشأن الفائضِ من ذلك الحُكم العربيِّ أو العلم بمضمونه {مَا لَكَ مِنَ الله} من جنابه العزيز، والالتفاتُ من التكلم إلى الغَيبة وإيرادُ الاسم الجليلِ لتربية المهابة، قال الأزهري: لا يكون إلها حتى يكون معبوداً وحتى يكون خالقاً ورازقاً ومدبراً. {مِن وَلِىّ} يلي أمرَك وينصرك على من يبغيك الغوائلَ {وَلاَ وَاقٍ} يقيك من مصارع السوءِ وحيث لم يستلزم نفيُ الناصرِ على العدو نفيَ الواقي من نكايته أُدخل على المعطوف حرفُ النفي للتأكيد، كقولك: ما لي دينارٌ ولا درهم، أو ما لك من بأس الله من ناصر وواقٍ لاتباعك أهواءَهم. وأمثالُ هاتيك القوارعِ إنما هي لقطع أطماعِ الكفرة وتهييجِ المؤمنين على الثبات في الدين، واللام في لئن موطئةٌ وما لك سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً} كثيرةً كائنة {مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً} نساء وأولاداً كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يَعيبونه صلى الله عليه وسلم بالزواج والولاد، كما كانوا يقولون: ما لهذا الرسولِ يأكل الطعام؟ إلخ {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً} مما اقتُرح عليه وحكمٍ مما التُمس منه {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ومشيئتِه المبنية على الحِكم والمصالحِ التي عليها يدور أمرُ الكائنات لا سيما مثلُ هذه الأمورِ العظام، والالتفاتُ لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملةِ بالإيماء إلى العلة {لِكُلّ أَجَلٍ} أي لكل مدةٍ ووقت من المُدد والأوقات {كِتَابٌ} حكمٌ معين يُكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمةُ فإن الشرائعَ كلها لإصلاح أحوالِهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك أنه يختلف حسب اختلافِ أحوالِهم المتغيّرةِ حسب تغيّرِ الأوقات كاختلاف العِلاج حسب اختلافِ أحوالِ المرضى بحسب الأوقات.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6